إعلان: يُوجد عندي دروس تعليمية باللغة العربية حول لغة البرمجة PROLOG مدّتها 80 ساعة بصيغة فيديو MP4 مع بعض الكتب الإلكترونية المُختصّة, وأنا أعرضها للبيع على طريقة المزَاد, مع العلم أنّ هذه الدروس جمعتها من الأنترنت لِنفسي منذ سنوات, والمهتم يتواصل معي.

روعة الخلق... بطولة الخفاش و حشرة مليز لودايما.


مليز لودايما Melese Lodamia و هي نوع واحد من عائلة تضم ستة آلاف نوع و تنتشر انتشارا واسعا في القارات الخمس و طبيعي أن لهذا الاختيار الغريب ما يبرره , اذ أنه هذه الحشرة - مع غيرها - قد ظلت تستخدم تكتيك الدفاع و المناورة مع الخفافيش , مستعينة على ذلك بتقنية الموجات و الموجات المضادة منذ عشرات الملايين من السنين , و من أجل هذا احتلت موقع الصدارة على الشارة , و كأنما هي تشير الى أن الانسان ليس هو مخترع تلك التقنية الحربية و و من هنا كان التكريم - ليس للفراشة بالتحديد , بل لفكرة سابقة دالة على بديع الصنع , و روعة التدبير , بدليل أن الفكرة قد استغلت و صمدت كل هذه الملايين من السنين ؟

و لا يحسبن الانسان نفسه - بعد ذلك - أنه صاحب الأفكار المبتكرة , و التصميمات المذهلة , و الأجهزة المتطورة و و وسائل التخاطب و الاتصالات و التشييدات المتباينة .. الى آخر هذه القائمة الطويلة التي يباهي بها و يفاخر , اذ لو عاد الى الطبيعة و دروس أسرارها , و استوضح مكوناتها , و عرف نواميسها , 

 و استلهم قوانينها , لخرج من ذلك بحصيلة علمية هائلة توضح له أنه " لا جديد تحت الشمس " كما يقولون , فكل فكرة للانسان , انما جاءت على أساس فكرة الخلق سابقة , و لا يعرف ذلك الا العلماء الذين درسوا أسرار الطبيعة و ألغازها .
- مشاكل تقنية معقدة :
العلماء الذين يتعاملون مع النظم البديعة الموزعة بين المخلوقات يعلمون قبل غيرهم أنهم يقفون أمام آيات في الخلق قدرت تقديرا مذهلا , و أنها قد وصلت الى درجات من الاتقان و الكفاءة التي يصعب هضمها بعقولنا.. مثل أجهزة ارسال الموجات فوق الصوتية , و أجهزة استقبال الموجات المرتدة التي تحدد بها الخفافيش أهدافها بدقة تامة , حتى لو كان هذا الهدف فراشة صغيرة أو حتى بعوضة محلقة.. و قد تبدوا هذه المشكلة هينة لينة , لكن الذين يدرسون علوم الفيزياء عامة , و الموجات فوق الصوتية خاصة , يدركون تماما أن الأمر ينطوي على شيئ أشبه بالمعجزة.
دعنا نبسط هذه المسألة , لتتصور مثلا أنك تجلس في قاعة بها موسيقى صاخبة , ممتزجة بأصوات بشرية عالية , تحجب كل صوت هامس , ثم زعم صديق يجلس بجوارك في هذا الوسط الضوضائي الصاخب أنه بسمع طنين ذبابة أو بعوضة يأتيه من مسافة مترين أو ثلاثة , عندئد لن تصدقه أنت , و لن يصدقه أحد , لأن التموجات الصوتية الضعيفة تحجبها التموجات القوية , كما يحجب ضوء مصباح قوي ضوء شمعة ملاصقة له , أو كما يحجب ضوء الشمس الساطع ضوء المصباح الكهربي .

ضع هذه الأمور في الحسبان مع أخذك في الاعتبار ما يعترض الخفاش من مشاكل مشابهة , فالخفاش يطلق موجات فوق صوتية ذات ترددات عالية و مزعجة , و لنتصور سربا يتكون من مئات أو آلاف الخفافيش التي تطلق موجاتها القصيرة و غير المسموعة للآدان البشرية , لكنها بالنسبة لهذه الكائنات ضوضاء عالية تستقبلها آدانها رغما عنها , لكن أدانها مع ذلك تستطيع أن ترشح الصدى الصوتي الواهن المرتد من بعوضة أو فراشة , و مع هذا الصدى أضعف بنحو ألفي مرة من الضوضاء التي يطلقها الخفاش , الا أنه يستطيع أن يلتقطها و يحدد مصدرها من بين غابة كثيفة من فوضى الأصوات التي تطلقها آلاف الخفافيش , لكن أحدا من العلماء لم يستطع أن يعرف الكيفية التي يتغلب بها الخفاش على هذه المشكلة التقنية المعقدة ؟

و لكي يتأكد العلماء من هذه الحقيقة , قاموا باجراء تجارب مثيرة , منها على سبيل المثال أنهم سلطوا على الخفافيش موجات فوق صوتية , و بنفس أطوال موجاتها و ذلك بغرض تداخل هذه مع تلك , و ابطال مفعولها , لكن الخفافيش مع ذلك استطاعت أن ترشح موجاتها المرتدة من بين هذا الضجيج و سلكت مسلكها بسلام , و دون أن تصطدم بالعوائق التي وضعت في طريقها , ليس ذلك فحسب , بل زيدت الضوضاء الى ألفي ضعف ما تطلقه الخفافيش , و لم يغير ذلك في الأمر شيئا , أما كيف توصلت الخفافيش الى حل هذه المشكلة , فلا أحد يعرف ذلك يقينا .

نعود لنقول لو أن الأدن البشرية قدر لها سماع صيحات الخفافيش , لأصبح الخلاء الذي تنطلق فيه مصدر ضوضاء مزعجة و مقلقة , لكن عدم سماعنا لها و احتجابها عنا ليس من قبيل الرحمة بنا عندما نلجأ الى فراشنا فحسب , بل و يرجع ذلك الى مبدأ علمي عرفه الانسان حديثا جدا , و سبقته به الخفافيش منذ ملايين السنين , فالموجات فوق الصوتية تتميز بترددات عالية , أي أن موجاتها أشد , و أصواتها أحد , و انعكاساتها من الأهداف أكثر تحديدا لمواقع هذه الأهداف و أحجامها حتى لو كان ذلك على هيئة سلك رفيع ممتد , أو بعوضة محلقة , و كأنما ارتداد الموجات فوق الصوتية من الهدف بمثابة شعاع الضوء الذي ينعكس من الشيء الى العين فتراه , لكن لا مانع من تقنية بيولوجية متقدمة تهيئ للخفاش من أمره رشدا فيرى الأشياء بأذنيه لا بعينيه .

اكتشاف مثير :

كان لبداية الكشف عن سر الحرب التي تستخدم يها الموجات فوق الصوتية قصة واقعية حدثت في شرفة منزل العالم الأمريكي الدكتور كينث رويدر أستاد علم الحيوان بجامعة "تفتس" بولاية ماساشوسيتس , ففي ليلة صيف دافئة من عام 1965 جلس هو و بعض زملائه يتسامرون في شرفة المنزل , و بالصدفة أمسك أحدهم بغطاء زجاجة من الفلين و حركه بضغط شديد حلى حافة كوب زجاجي , فانطلق منه صوت حاد , و الى هنا يبدوا الأمر عاديا تماما , لكنه لم يكن كذلك حقا , اذ أن ما حدث بعد ذلك كان ملفتا للنظر , فلقد قامت الفراشات - التي كانت تحوم حول المصباح الكهربي المضيء - بعملية هبوط مفاجئة على أرضية الشرفة , و كأنما أصابها الشلل بغتة ؟ لم تمر هذه الملاحظة المتواظعة مرورا عابرا , بل جذبت انتباه الحاضرين , و على رأسهم بروفيسور رويدر , و لقد ضن بعضهم - بادئ الأمر - أن هذا الهبوط المفاجئ ربما كان بسبب شلل عارض في الجهاز العصبي للفراشات , نتيجة لذلك الصوت الحاد , اذ أحيانا ما يحدث الشيئ نفسه لبعض الكائنات عندما تتعرض لضوضاء شديدة تفقدها وعيها لفترة غير قصيرة , لكن الفراشات التي هبطت فجأة , بدأت تتحرك هنا و هناك بسرعة , و ظلت هكذا - في حركتها - مضطربة , و كأنما تخشى من بلاء قادم , ثم ما لبثت أن حلقت في الهواء , و انطلقت الى غير رجعة , و كأنها تتجنب كارثة محققة , و من أجل هذا عقد العلماء العزم على تحري أسباب هذه الظاهرة المثيرة , و في معامل الجامعة تعاون كل من رويدر و زميله الدكتور اشر تريت في دراسة سلوك هذه الفراشات , و استمر البحث سنوات , فتمخض عن حقائق مذهلة لم تكن لتطرأ على بال أحد , فهناك الآن قائمة بأكثر خمسمائة بحث منشور عن تقنية الموجات فوق الصوتية القائمة من الخفافيش و الحشرات , و مع ذلك فقد كشف العلماء عن أسرار , و بقيت أسرار أخرى كثيرة تستوجب كشف غموضها , و معرفة ألغازها , لأن المعرفة هنا قد تفيدنا في تطوير أفكارنا , و صقل أجهزتنا , أو قد نسيطر بها على انتشار تلك الحشرات , و معظمها ضار بالزرع و الضرع , لكن الجانب التطبيقي أو التقني , لهذه التصميمات البيولوجية يتضح أكثر عندما تظهر على مسرح الأحداث بعض أنواع الفراشات التي تلعب مع الخفافيش لعبة خطرة من ألعاب الموت والحياة .

و الواقع أن العلماء قد سجلوا الحرب الدائرة بين الخفافيش و المحلقة و الحشرات الهائمة بالموجه و الصوت والصورة , و بعمليات تشريح دقيقة , و تعرفو على محطات البث و الاستقبال في الخفافيش , و على أجهزة التنصت الحية التي تمتلكها بعض الحشرات لتتسمع على الموجات , و نحن لا نستطيع أن نتعرض لتفاصيل هذه التكنولوجية هنا , فالحديث فيها يتشعب ويطول و الحديث ضيق , لكن يكفي أن نذكر أن الخفافيش تبت موجاتها فوق الصوتية باندفاع الهواء من "صناديق قوية حية" فيمر بضغط كبير من خلال حناجرها الى أفواهها على هيئة تموجات سريعة تصل شدتها الى مابين 45 ألف الى 90 ألف تردد أو اهتزازه في الثانية الواحدة , و لهذا لا نسمعها , لأن الأذن البشرية تسمع في حدود ترددات تقع ما بين 20 و 30 ألف تردد في الثانية , و كلما كان التردد أشد كان الصوت أحد , ثم يصبح أكثر حدة في الموجات فوق الصوتية التي لا نسمعها , لكن الفراشات تستطيع ذلك .

و لا شك أن هناك مشاكل تقنية عويصة بين الصيد و الصياد , لكن الخفاش متكفل بحل مشاكله و يعرف تماما كيف يغير من تكتيكه , و هذا التكتيك مؤسس على مبادئ علمية هامة يعرفها العلماء حق المعرفة , و عليها نؤسس أجهزتنا في تطبيقات لا نحصيها عدا لكن الخفاش قد عرفها , أو هي قد أوحيت في تكوينه وحيا جميلا , لكن يكفي أن نذكر مثالا واحدا نوضح به ما قدمنا فأوجزنا.

خد على سبيل المثال حشرة ضئيلة محلقة مثل ذبابة الفاكهة التي لا يتجاوز طولها ملليمترين و نصف , و وزنها جزء من ألف من الجرام , و رغم هذه الضآلة وزنا و حجما , الا أنها كافية لأن تعكس الموجات فوق الصوتية إلى أذن الخفاش فيشعر بها و هو على مسافة منها تقدر بنصف المتر , و في جزء من ألف جزء من الثانية أو بعد أن يكون قد قطع عشرة سنتمترات فقط من استقبال الموجات , يقوم بحركة التفاف بارعة , و في الوقت ذاته تنطلق منه موجات أكثر , و بعدد من الترددات أكبر , و بأطوال أقصر لتكون الكفاءة في الرصد أتقن , و كل هذا نزول على قوانين و معادلات الفيزياء التي يطبقها الخفاش بكفاءة و ذكاء , و الخفاش لا شك صياد بارع , إذ يستطيع أن يرصد و يصطاد و يلتهم عددا كبيرا من الحشرات , و لقد أحصى له العلماء ما اصطاده و هو ينطلق بين سرب من البعوض - بخمسة آلاف بعوضة خلال ساعة واحدة .. و لقد اتضح أنه لا يصطادها بفمه بل يحويها بطرف جناحه , و بسرعة خاطفة يحولها الى فمه ؟

- تكتيك :
و الخفاش يطلق صيحاته فوق الصوتية فتنتشر في الهواء كما ينتشر الضوء من مصباح سيارة , و كلما ابتعد الضوء عن المصدر زاد اتساعا و انتشارا و ضعفا , و كذلك الموجات الخفاشية التي أصبحت بدورها بمثابة (كشاف) صوتي يكشف له الأفق الممتد أمامه , و يوضح ما قد يعترض تلك الموجات من بعوضة محلقة , أو حشرة هائمة , أو عوائق معترضة , لكنه و بسرعة فائقة يحدد الغث فيتجنبه , أما السمين فينجذب إليه بدقة موجهة , فإذا بالصيد في لحظة خاطفة يصبح لقمة سائغة , لكن ليس كل ما يهواه الصياد يدركه , و كذلك الأمر مع الخفافيش إذ توجد أجهزة تنصت دقيقة ترصد موجات العدو , و تحدد سرعته و اتجاهه , لتقوم بعمليات توجيه و مناورة سريعة , فتفوت على المهاجم فرصته و يعود من محاولاته في أغلب الأحيان بخفي حنين .

و لا شك أن أجهزة التنصت على موجات العدو ليست في الأصل فكرة بشرية , بل هي أساسا ( حشرية ) , لكن الأجهزة الحشرية تعتبر أدق و أكفأ و أصغر أجهزة يمكن أن تتعامل مع الموجات فوق الصوتية , و بالطبع فان التنصت يختلف باختلاف النوع عند الصيد و الصياد , فهناك مثلا حوالي 700 نوع من الخفافيش تعيش على الحشرات , و لكل نوع محطة يث تذيع على موجات يمكن بها تحديد هويته , و يوجد أيضا نحو 45 ألف نوع من الحشرات لها أجهزة تنصت لكن دعنا نختصر كل ذلك و نختار جهازا بسيطا , تتجسد فيه الكفاءة , و تتجلى العظمة , و لنأخذ جهاز التنصت عند فراشة ( ميليز ) رمز الشارة الشرفية التي أوردناها في بداية الدراسة , فلهذه الفراشة أذنان على جانبي صدرها , و كل أذن تتكون من غشاء رقيق ( بمثابة طبلة ) و على هذا الغشاء ترتكز نهايتا خليتين عصبيتين , كما تتركز الإبرة على أسطوانة جرا موفون , و تحت ( الطبلة ) يوجد نسيج خفيف به أكياس هوائية , و في هذا النسيج تنتشر ثلاث خلايا عصبية لا غير , اثنان منها ينقلان اهتزازة الطبلة خلال خيط أو خط حي , مرورا بكل خلية , و انتهاءا بخيط عصبي من نفس الخلية - بمخ الحشرة البدائي ( مجرد عقدة عصبية ) ... أما الخلية الثالثة , فلا أحد يعرف وظيفتها حتى الآن , لكن لا شك أنها لم تخلق عبثا , و يوم نعرف رسالتها , فقد نرى منها عجبا , ؟

لكن العجب قد اكتشفه العلماء عندما أوصلوا كلا من الخليتين على جهاز رسم النبضات العصبية ليعرفوا كيف تتفاعلان إذا ما سمعت الفراشة الموجات فوق الصوتية لخفاش من زوايا مختلفة , و على مسافات متباينة , و من ذلك مثلا أن الخفاش لو جاء الفراشة من يمينها , و كان يبعد عنها حوالي 25 متر , فان الخلية العصبية رقم 1 في الأذن اليمنى تسجل ثلاث نبضات , و التي في اليسرى تسجل واحدة , فإذا اقترب أكثر , زادت الثلاثة إلى خمسة , و الواحدة إلى ثلاثة , و في حالة مروره فوقها أو تحتها أو قريبا جدا مها , تسجل الخليتان في الأذنين عددا متساويا من النبضات العصبية , لكن ما المصير ؟؟؟
أي كيف تتصرف الفراشة مع هذا الخطر الداهم ؟ ليس هناك من مفر إلا عمل مناورة فجائية لحركات نحسبها اعتباطية , و فيها تنحرف الحشرة انحرافات موجهة حسبما تمليه الإشارات المرصودة عن اتجاهات العدو , فان اتجه نحوها يمينا انحرفت بغتة يسارا و في زوايا هابطة صاعدة بغرض تجنب ( القذيفة ) الحية الموجهة...
و الذين سجلوا مثل هذه المعارك على أفلام حساسة , ثم عرضوها عرضا بطيئا , ذكروا أن المناورات تتسم ببراعة فائقة , قد لا يصدقها عقل بشر , و لا شك أن التوقيت و المباغتة و خفة الحركة و سرعة المناورة تلعب أدوارا هامة في حسم المعركة , إما لصالح الخفاش , أو لصالح الحشرة و غالبا ما تسلك هذه الأخيرة طريق السلامة , فتطوي جناحيها , و تهبط اضطراريا إلى الأرض , حيث تسعى لتبحث لها عن مخبأ يحميها.

- جهاز الانذار المبكر :
لكن الخفافيش قد تكف أحيانا عن بث موجاتها , حتى لا ينتبه لذلك صيدها , و هنا تبرز المشكلة : إذ كيف يهتدي إلى موقعها مادامت ( كشافاته الصوتية ) , قد أغلقت ؟
الحل أن يشتغل على موجات الصيد ذاته , أي يصبح الخفاش مستقبلا لا مرسلا , خاصة في حالات الحشرات التي تصدر صوتا أو طنينا أثناء الطيران ( مثل البعوض و الذباب ) و في مثل هذه المواقف , تكون قد جنت على نفسها مشاكل عديدة ... , و لا بد و الحال كذلك أن يهتدي إليها الخفاش بموجاتها لا موجاته , فإما أن يتوجه ليحصل على الغنيمة , أو يبتعد عن تلك المصيبة , , إذ كثيرا ما تأتي الرياح بما لا تشتهي سفن الخفافيش , فقد تكون الحشرة الهائمة ذات طعم رديء , أو قد يكون فيها السم الزعاف , و طبيعي أن الخفاش لا يقتل لكي يتذوق , و لا يضيع وقته و جهده فيما يعود عليه بالأذى , إذ هو خبير بالصالح والطالح , و لديه ذاكرة قوية بما تبثه الإذاعة الحشرية , و من البث ما يجد هوى في نفسه , و منه ما يفزعه , و كأنما الحشرة أو الفراشة تطلق صيحاتها ,هكذا ( خذ حذرك , فمذاقي مقزز , و طعمي مقبض (...
و قد يبدوا ذلك من شطحات الخيال , لكنها حقيقة لم تنبع من فراغ , إذ أوضحته لنا الدكتورة ( دوروثي داننج ) و هي من تلاميذ البروفيسور رويدر الذي سبقت الإشارة إليه من خلال تجارب رائدة , و ملخصها أنها كانت تطلق أنواعا من الديدان التي تهواها الخفافيش من بندقية خاصة , فتنتشر في الهواء , و في الوقت ذاته تطلق عددا من الخفافيش في صالة مغلقة وتصطاد الديدان من الهواء بكفاءة ناذرة , و في إحدى هذه التجارب أحضرت جهاز تسجيل كانت قد سجلت عليه طنين أنواع خاصة من الفراشات , ما إن بدأ الصوت ينطلق حتى بدأت الخفافيش المنطلقة وراء الديدان تتراجع عن أهدافها , و كأنما أصابتها صدمة ؟
إن تعليل ذلك لا يخفي على لبيب , فهذا التسجيل المذاع هو لجنس معين من الفراشات ( اسمه اركتيدي) , و أنواع هذا الجنس تمتلك جهازا صغيرا تنطلق منه موجات فوق صوتية , و بها تنذر الخفاش مبكرا بأنها رديئة الطعم حتى لا يبدأ الهجوم , و طبيعي أن الخفافيش لا تعرف أجهزة التسجيل , و لا خداع البشر , لكنها عرفت معنى ( الإنذار المبكر ) قبل أن يعرفه البشر بعشرات الملايين من السنين ؟
و قد يبرز هنا استفسار أخير : لماذا كل هذه التكتيكات من خفافيش و حشرات ؟ و هذا سؤال كبير جدا , و الإجابة عنه تحتاج لمجلة كاملة , لأن الموضوع اشمل من ذلك و أعم , و لأن حياة المخلوقات جميعا تحكمها شرائع عامة , و من شرائعها أنها قامت على أساس أن هناك دائما يوجد آكل و مأكول , صيد و صياد , و كل هذا يسير في سلسلة معقدة , , ذات حلقات متشابكة , لتدور الحياة بموازين مقدرة و فلا تطغى ذرية نوع على ذرية نوع آخر .. و طبيعي أن لكل نوع ذريته و أفراده , لكن الذرية لا تأتي و كأنما هي نسخة كربونية من بعضها , بل لا بد من اختلاف في القدرات والكفاءات ...
و القدرات تتجلى في عوامل كثيرة , بمعنى أن الحشرة أو الفراشة التي تتميز عن أترابها في النوع الواحد بامتلاك جهاز تنصت أكثر اتقانا , و تقوم بمناورات أسرع , و تكون متيقظة لمصيرها أكثر , فسوف تكون فرصتها في الإفلات من الخفاش أكبر , لكن ما دون ذلك يصبح سهل المنال , لأنه بضعفه التكتيكي - لا يستطيع أن يجابه الحياة , و هكذا شاءت شريعة الله , كذلك الحال مع الخفاش , خاصة إذا حدثت أزمة في الطعام , و عندئذ يفوز الخفاش الأقوى بنصيب الأسد , و على الأضعف أن يتوارى , و سر على ذلك مع كل المخلوقات ..
إنها القوة , لا شيء غير القوة ... فأفيقوا يرحمكم الله...
سبحان الله و بحمده و لا اله الا الله محمدا رسول الله
منقول من أحد أعداد مجلة العربي الكويتية , لعدد سنة 1985

2 التعليقات

شاركنا التعليقات
2/18/2013 04:52:00 م حذف

لا عليك أخي الكريم ...

رد
avatar
nada.mixseogy
الكاتب
8/05/2020 01:10:00 م حذف

شركات مكافحة الحشرات في ابوظبي
هناك العديد من شركات مكافحة الحشرات في ابوظبي التى تعمل على التخلص من الحشرات ولكن ما يميزنا عن الجميع هو اننا لا نعمل فقط على تحقيق ارباح للشركة بل نعمل على مساعدتك فى ان تتخلص من هذه المشكلة بشكل نهائى لذلك اذا اردت ان تحصل على مكافحة حشرات ابوظبي لا تتردد فى الاتصال بنا
مكافحة حشرات ابوظبي
https://www.smartcareae.com/arabic/pest-control-abu-dhabi/

رد
avatar