هل تحاول الولايات المتحدة استعمال المعلوماتية وتقنياتها
ونُظُمها ومعارفها، سلاحاً في ضرب الأقطاب الصاعدة عالمياً؟ لقد أعلنت
السلطات الأميركية مراراً أن العلوم والتكنولوجيا ذراع قوي في السياسة
الأميركية (مع ملاحظة أنها تندرج ضمن "القوة الناعمة" للولايات المتحدة)،
فهل شرعت أميركا في استخدامها بطريقة "قاسية"؟
إذا صح ما يقوله الساسة الأميركيون علناً عن نظرتهم
لتكنولوجيا المعلوماتية (بل مجمل العلوم)، يُصبح النزاع بين شركة "غوغل"
والصين، مواجهة سياسية مبطّنة بالمعلوماتية. مع ملاحظة ان "غوغل" بررت
تهديدها بوقف عملها في الصين، بورقة صادرة عن "لجنة العلاقات الأميركية
الصينية" في الكونغرس، وأن ذلك النزاع اندلع في سياق صفقة اسلحة أميركية
لتايوان التي تمثّل موضوعاً استراتيجياً مهماً للصين، وكذلك فإن شركة
"غوغل" لم تترك الصين على رغم خطابها العالي النبرة في "الندب" على حظوظ
الديمقراطية وحقوق الانسان في بلاد "العم ماو". لم يغيّر شيوعيو الصين (وهم
غير شيوعيي الأمس في تلك البلاد) من نهجهم الذي يتضمن الكثير مما لا يندرج
ضمن الديمقراطية ولا يراعي حقوق الإنسان والأفراد والإثنيات والثقافات،
لكن شركة "غوغل" خفضت نبرتها، واستمرت في عملها خلف "سور عظيم" من رقابة
سلطات بكين على عملها!
بعد المعركة في الصين، يبدو ان الجبهة انتقلت الى البرازيل والهند
وأندونيسيا، وهي دول يجمعها مع الصين أنها تمثّل الأسواق الصاعدة، ما يعني
أنها تساهم ببروز "عالم متعدد الأقطاب" أيضاً. ولا تدور المعركة مع الدول
الثلاث المذكورة حول الديمقراطية (لنلاحظ أن الهند أضخم ديمقراطية
عالمياً)، بل تدور في ساحة أكثر حساسية: النُظُم المفتوحة لتشغيل
الكومبيوتر Open Source Computer Operating Systems.
ثمة إدعاءات متكرّرة، تجد صداها القوي دوماً في الاعلام العربي، بأن
النُظُم المفتوحة لتشغيل الكومبيوتر لم تعد مصدر إزعاج ولا منافسة للشركات
العملاقة للمعلوماتية. في المقابل، تقاطر سيل من الوقائع أخيراً، ينفي ذلك
الأمر، ما يؤكّد ان العمالقة الذين تهيمن مصالحهم على عالم المعلوماتية
ومجرياتها، ما زالوا في حالة قلق بالغ حيال النُظُم المفتوحة, والآفاق التي
تتيحها في مجال الحرية فردياً وجماعياً، خصوصاً في مسألة نقل المعرفة.
واستطراداً، تهم هذه الأمور العالم العربي بأكثر مما يظهر في إعلامه الذي
يغرق معظمه في إغفاءة ليست بالنادرة، عن مجريات الأمور في المعاصرة.
وقبل أيام، كشف البروفسور أندريز غوداميز، وهو أستاذ للقانون في جامعة
أدنبرة البريطانية، أن ثمة مجموعة ضغط (لوبي) هائل القدرات، يحاول الضغط
على رئاسة الولايات المتحدة، كي تصدر تشريعاً يُساوي بين النُظُم المفتوحة
لتشغيل الكومبيوتر وبين القرصنة المعلوماتية. والمعلوم ان النُظُم المفتوحة
لتشغيل الكومبيوتر، مثل نظام "لينوكس" Linux الذي تدعمه شركة "ريد هات"،
تتميز بأنها ليست مُشفّرة، ما يتيح لمستخدميها تعديلها بالطريقة التي
تتلاءم مع حاجاتهم ورغباتهم. وعلى عكس ذلك، لا تكشف الشركات العملاقة في
المعلوماتية عن شيفرة نُظُمها في تشغيل الكومبيوتر. فعلى سبيل المثال، حاول
الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون قصارى جهد إدارته، بل لجأ الى المحاكم
والقضاء، أن يقنع شركة مايكروسوفت بالكشف عن شيفرة نظامها الشهير
"ويندوز". وأبت تلك الشركة. واستطاعت مايكروسوفت أن تمنع القضاء الأميركي
من اتخاذ قرار يلزم الشركة بالكشف عن شيفرة نظام "ويندوز". ولم يمنع ذلك
الأمر أيضاً، من تحوّل النُظُم المفتوحة، باعتبارها تمثّل مفهوماً معاكساً
للنظم المقفلة التي تنتجها الشركات العملاقة، الى حقيقة أساسية في عالم
المعلوماتية. وبذا، دار صراع "خفي" بين هذين المفهومين، ما زالت فصوله
تتوالى.
وجاء ما كشف عن البروفسور غوداميز ليعيد الى الواجهة الأسئلة القلقة عن
هذا الصراع. إذ بيّن هذا الاختصاصي في القانون أن لوبي الشركات العملاقة،
يحمل اسم "التحالف الدولي للملكية الفكرية" International Intellectual
Property Alliance (واختصاراً "أي أي بي إيه" iipa)، طلب من وزارة التجارة
الأميركية، إدراج أندونيسيا والبرازيل والهند في قائمة "الدول الواجب
إبقاؤها تحت المراقبة"، التي تعرف باسم "القائمة الخاصة 301". وحاول ذلك
اللوبي تبرير طلبه بالإشارة الى ان هذه الدول تستخدم نُظُماً وبرمجيات
مفتوحة المصدر. وتهتم "القائمة الخاصة 301" بمسألة الملكية الفكرية، وتُدرج
فيها الدول التي تعتبرها حكومة الولايات المتحدة "أعداء" للرأسمالية.
والطريف ان الدول الثلاثة تنتهج إقتصاداً رأسمالياً، بتلاوين متنوّعة!
ويؤدي ظهور اسم دول فيها الى توجيه ضغوط تجارية متنوّعة عليها، غالباً ما
تتركز حول صناعة الأدوية والسِلَع المقلّدة. وفي هذه الحال، يظهر ان وزارة
التجارة ستركز على مسألة النُظُم المفتوحة وبرامجها. واستطراداً، تملك
الدول الثلاثة صناعات نشطة في مجال العقاقير، وتنتج أدوية شرعية ورخيصة
الثمن، تُسمى "الأدوية النوعية" Generic Drugs، تحت مظلة "جولة الدوحة" من
الاتفاقيات المعتمدة في "منظمة التجارة العالمية". ويزيد في تعقيد الموقف
ان كثير من الاختصاصيين في القانون الدولي، مثل استاذ جامعة أدنبرة السابق
الذكر، لا يرون تعارضاً بين الأسواق الرأسمالية الحُرّة وبين النُظُم
المفتوحة، بل أن البروفسور غوداميز يعتبرها نموذجاً من المنافسة الرأسمالية
أيضاً.
فهل أصبح الاقتصاد الأميركي قلق حيال الآفاق المضطربة التي رسمتها
الأزمة الاقتصادية العالمية، بحيث أنه بات يرى "الدول الصاعدة" تهديداً له،
ولا يتردد في استعمال سلاح العلوم والتكنولوجيا لتحطيمها؟ لننتظر ولنر.
المصدر : هنا
الإبتساماتإخفاء